مشهد 1
المكان: أحد مناطق حي الحسين
الزمان: ثورة 1919
آلاف من الجماهير تندفع من الحواري والأزقة والشوارع والبيوت لتنضم للقطار البشري الذي يطوف القاهرة كلها، حاملين أعلاما زاهية لمصر بلونه الأخضر وهلاله ونجومه الثلاث، الكل رافع العلم على اختلاف ملته سواء الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية، اسم مصر يقال بحماسة لا تعرف الفتور، رفع الأعلام فوق الجباه أمر لا نقاش فيه، الحالة الوطنية لا تُوصف، أشبه بحالة الناس في شارع جامعة الدول العربية بعد فوز مصر على منتخب الجزائر في بطولة الأمم الإفريقية الأخيرة -مع الفارق الكبير واحترامنا البالغ للثوار.
مشهد 2
المكان: مدرسة حكومية
الزمان: السابعة و45 دقيقة صباحا من أحد أيام شهر فبراير من العام 2001
يصطف التلاميذ في فناء إحدى المدارس الحكومية بشكل أشبه بطوابير العيش، بعضهم متعب والبعض الآخر لم يستيقظ بعد، قبل أن يأذن مدير المدرسة لأحد الطلاب بالتقدم لأداء تحية العلم، فتقدم ممسكا بطرف خيط دوبارة موصولة بخرقة بالية اتضح فيما بعد أنها عَلم، أخذ يشد طرف الخيط في جهد واضح بعد أن تعثر العلم لأكثر من مرة في ساريته فوصل أخيرا، قبل أن يبدأ الطالب في الترديد: تحيا جمهورية مصر العربية، فيردد الطلاب وراءه بصوت أشبه بالهمهمات على شكل تثاؤب، ومنهم من حرّك فاه دون إصدار صوت في تمويه مفضوح يعرفه الجميع بما فيهم المدرسون، ولكنهم لا يحرّكون ساكنا لسبب بسيط وهو أنهم شخصيا لا يحيّون العلم، قبل أن يُوقف مدير المدرسة النشيد الوطني استعجالا لبدء الحصة الأولى، فيدب النشاط فجأة في طلاب أحد الفصول، ويبدؤون في تغيير ملابسهم مسرعين استعدادا لحصة الألعاب.
مشهد 3
المكان: شارع جامعة الدول العربية
الزمان: مباشرة عقب مباراة مصر والجزائر بأنجولا 2010
مئات وربما آلاف من الجماهير المصرية خرجت كي تحتفل بفوز مصر على الجزائر رافعين أعلاما لمصر زاهية الشكل، واضحة الألوان، مرفرفة في السماء، الأغاني الوطنية أصبحت تُلهب مشاعرهم بعدما كانت تُثير سخريتهم، أصبح هناك حالة حب بينهم وبين العَلم.
اقرأ.. هكذا تطور العلم المصري من هلال ونجمة إلى الشكل الحالي
كنت بتحيي العلم في المدرسة؟ السؤال غريب نوعا ما، لكن مهم، وربما لم يخطر على بال كثيرين حتى اللحظة التي أطلق فيها وزير التربية والتعليم الحالي الدكتور أحمد زكي بدر بيانا يحث فيه المدارس على اختلاف أشكالها من حكومية لتجريبية لخاصة للغات لدولية بضرورة تحية العلم في طابور الصباح، وترديد النشيد الوطني أثناء الطابور..
لا يمكننا أن ننكر أن العلم المصري منذ 2006 وتنظيم مصر لبطولة الأمم الإفريقية وقد استرد زهوه، فجأة نطق الأحمر الفاقع بعدما كان بارداً، وزعق الأسود اللامع بعدما كان مطفيّاً، ونصع الأبيض الهادئ بعدما كان متسخاً، وكأن الناس فجأة اكتشفوا في العلم زوايا جديدة أول مرة يتعرفون عليها، وقعوا في حبه وفي شكله، وآثروا رفعه وحمله، في أي مكان وكل مكان، واستمرت هذه العادة الحميدة طوال السنوات الأربع دون انقطاع..
لكن أيضا لا ننكر أن العَلم كان بنفس الزهو -وإن اختلف شكله- قبل الثورة، كان دائما يزين به أي فرح أو مناسبة سعيدة أو ثورة أو مظاهرة أو إضراب، كان راعيا رئيسيا ووحيدا في مختلف الأحداث التي تحدث بالشارع المصري، ولكن وبعد ثورة 1952 والوحدة بين مصر وسوريا وتغير شكل العلم إلى الألوان الثلاثة بنجوم ثلاثة أيضا، ثم إحلال النسر مكان النجوم، وقد انطفأ شيء في نفوس الناس، اختصر العلم في مجرد قماشة ملونة الشكل دليل على ملكيتنا لأرض معينة أو انتصارنا في حرب معينة، ضاع منه الرمز وضاعت منه القيمة، ضاع منه التاريخ وضاع منه كل شيء.. تفتكر ليه؟
هو علم مصر شكله وحش؟
ربما تغيير الشكل كان سببا في تراجع الإقبال الشعبي على العَلم، ربما وطنية الناس وارتباطهم بالعَلم كان في جزء منه ارتباطا بشكل العَلم الذي يعبّر عن هويتنا الإسلامية، فتراجع عنه الإسلاميون من إخوان وسلف وسنة، ونفر منه العلمانيون والمعتدلون بعدما بات مثله مثل عشرات من الأعلام في سوريا وفي العراق وفلسطين والسودان، مع بعض الفوارق.
ممكن يكون هذا هو السبب الحقيقي، ولهذا ارتفعت الأصوات المطالبة بتغيير شكل علم مصر وقتل النسر، وإحلاله بالأهرامات الثلاثة -النائب بمجلس الشعب حسين عبد السميع- تأكيدا على هويتنا الفرعونية أفضل من حالة اللاهوية التي يعاني منها العَلم، فلبنان تضع شجرة الأرز المشهورة بها؛ تأكيدا على هويتها، والسعودية تضع العلم الأخضر بسيفيه وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ تأكيدا على هويتها الإسلامية وتاريخ النبي والسلف الصالح الذين انطلقوا لنشر الإسلام في العالم أجمع من مكة، وعليه فنحن أولى بأهرامات هي جُلّ معرفة الآخر بنا.
المشكلة فينا مش في العَلم
أم ربما العَلم مظلوم، والمشكلة ليست في العَلم؛ لأننا من نصنع العَلم ومن نقرر نحبه أم نكرهه، نلقيه أرضا أم نرفعه، ونحن لم نعد قادرين أن نحبه، وهذا تفسير شخص يائس من الحياة والبلد للعَلم المصري:
اللون الأحمر = دم الناس اللي بتموت في الحوادث والقطارات والعبّارات والمعدّيات!
اللون الأبيض = 40% أمية و100% عزوف شعبي عن المشاركة سياسية (أبببببببيض)!
اللون الأسود = الحزن والاكتئاب الذي بات سمة عامة للمصريين، ونسيوا الضحكة بعد أن كانت أهم مميزات المصري!
النسر = هو بطبيعته حيوان يقتات على لحم الميت، إذن النسر هو الحكومة!
ما تيجوا ننسى اللي فات
إذا كان من المهم أن نعرف سبب ما دفع بالعلم للنازل، إذا كان من المهم أن نعرف سبب وجوده على هامش قلوبنا في فترة من الفترات، فالأهم الآن أن العلم استرد مكانته في القلوب، لم يعد مجرد قماشة، بل أصبح عقد حب بين الناس والبلد، لكن كم من اتفاقيات وعقود حب تُخترق بحكم تصرفات خرقاء من حكومة هنا أو وزير هناك، إذن لا بد من شرط جزائي يضمن استمرار العقد..
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يضمن استمرار العقد هو أن نفصل علم مصر عن تصرفات بعض أهل مصر، أن يتساوى لدينا العَلم بالأهرامات والنيل، بالبرج، والأوبرا، ببائعي العيش والجرجير الغلابة، بالمفكرين والأدباء والعلماء، بمصر المعنى والقيمة، ولا نربطها بالقهر والظلم والفساد، ولا بـ"حرامية" القروض والبنوك والأراضي، ولا بالمرتشين والمحتكرين ممن هم من دماء الغلابة متربحون.. لو نجحنا في هذا الفصل العبقري فعلا فسنسترد المعنى والتفسير الحقيقي للعَلم كالتالي:
اللون الأسود = الاحتلال الذي ثُرنا عليه وأخرجناه منكسرا مهانا.
اللون الأحمر = دماء الشهداء في حرب 1973.
اللون الأبيض = السلام الذي نعمنا به بعد أن نفضنا عنّا غبار الحروب.
النسر = طائر الحرية الذي يفتك بكل من يقترب من حريته.
تفتكر نعمل إيه عشان العلم ما ينطفيش تاني؟
ويا ترى شكل العلم كده كويس ولا نغيّره؟
المكان: أحد مناطق حي الحسين
الزمان: ثورة 1919
آلاف من الجماهير تندفع من الحواري والأزقة والشوارع والبيوت لتنضم للقطار البشري الذي يطوف القاهرة كلها، حاملين أعلاما زاهية لمصر بلونه الأخضر وهلاله ونجومه الثلاث، الكل رافع العلم على اختلاف ملته سواء الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية، اسم مصر يقال بحماسة لا تعرف الفتور، رفع الأعلام فوق الجباه أمر لا نقاش فيه، الحالة الوطنية لا تُوصف، أشبه بحالة الناس في شارع جامعة الدول العربية بعد فوز مصر على منتخب الجزائر في بطولة الأمم الإفريقية الأخيرة -مع الفارق الكبير واحترامنا البالغ للثوار.
مشهد 2
المكان: مدرسة حكومية
الزمان: السابعة و45 دقيقة صباحا من أحد أيام شهر فبراير من العام 2001
يصطف التلاميذ في فناء إحدى المدارس الحكومية بشكل أشبه بطوابير العيش، بعضهم متعب والبعض الآخر لم يستيقظ بعد، قبل أن يأذن مدير المدرسة لأحد الطلاب بالتقدم لأداء تحية العلم، فتقدم ممسكا بطرف خيط دوبارة موصولة بخرقة بالية اتضح فيما بعد أنها عَلم، أخذ يشد طرف الخيط في جهد واضح بعد أن تعثر العلم لأكثر من مرة في ساريته فوصل أخيرا، قبل أن يبدأ الطالب في الترديد: تحيا جمهورية مصر العربية، فيردد الطلاب وراءه بصوت أشبه بالهمهمات على شكل تثاؤب، ومنهم من حرّك فاه دون إصدار صوت في تمويه مفضوح يعرفه الجميع بما فيهم المدرسون، ولكنهم لا يحرّكون ساكنا لسبب بسيط وهو أنهم شخصيا لا يحيّون العلم، قبل أن يُوقف مدير المدرسة النشيد الوطني استعجالا لبدء الحصة الأولى، فيدب النشاط فجأة في طلاب أحد الفصول، ويبدؤون في تغيير ملابسهم مسرعين استعدادا لحصة الألعاب.
مشهد 3
المكان: شارع جامعة الدول العربية
الزمان: مباشرة عقب مباراة مصر والجزائر بأنجولا 2010
مئات وربما آلاف من الجماهير المصرية خرجت كي تحتفل بفوز مصر على الجزائر رافعين أعلاما لمصر زاهية الشكل، واضحة الألوان، مرفرفة في السماء، الأغاني الوطنية أصبحت تُلهب مشاعرهم بعدما كانت تُثير سخريتهم، أصبح هناك حالة حب بينهم وبين العَلم.
اقرأ.. هكذا تطور العلم المصري من هلال ونجمة إلى الشكل الحالي
كنت بتحيي العلم في المدرسة؟ السؤال غريب نوعا ما، لكن مهم، وربما لم يخطر على بال كثيرين حتى اللحظة التي أطلق فيها وزير التربية والتعليم الحالي الدكتور أحمد زكي بدر بيانا يحث فيه المدارس على اختلاف أشكالها من حكومية لتجريبية لخاصة للغات لدولية بضرورة تحية العلم في طابور الصباح، وترديد النشيد الوطني أثناء الطابور..
لا يمكننا أن ننكر أن العلم المصري منذ 2006 وتنظيم مصر لبطولة الأمم الإفريقية وقد استرد زهوه، فجأة نطق الأحمر الفاقع بعدما كان بارداً، وزعق الأسود اللامع بعدما كان مطفيّاً، ونصع الأبيض الهادئ بعدما كان متسخاً، وكأن الناس فجأة اكتشفوا في العلم زوايا جديدة أول مرة يتعرفون عليها، وقعوا في حبه وفي شكله، وآثروا رفعه وحمله، في أي مكان وكل مكان، واستمرت هذه العادة الحميدة طوال السنوات الأربع دون انقطاع..
لكن أيضا لا ننكر أن العَلم كان بنفس الزهو -وإن اختلف شكله- قبل الثورة، كان دائما يزين به أي فرح أو مناسبة سعيدة أو ثورة أو مظاهرة أو إضراب، كان راعيا رئيسيا ووحيدا في مختلف الأحداث التي تحدث بالشارع المصري، ولكن وبعد ثورة 1952 والوحدة بين مصر وسوريا وتغير شكل العلم إلى الألوان الثلاثة بنجوم ثلاثة أيضا، ثم إحلال النسر مكان النجوم، وقد انطفأ شيء في نفوس الناس، اختصر العلم في مجرد قماشة ملونة الشكل دليل على ملكيتنا لأرض معينة أو انتصارنا في حرب معينة، ضاع منه الرمز وضاعت منه القيمة، ضاع منه التاريخ وضاع منه كل شيء.. تفتكر ليه؟
هو علم مصر شكله وحش؟
ربما تغيير الشكل كان سببا في تراجع الإقبال الشعبي على العَلم، ربما وطنية الناس وارتباطهم بالعَلم كان في جزء منه ارتباطا بشكل العَلم الذي يعبّر عن هويتنا الإسلامية، فتراجع عنه الإسلاميون من إخوان وسلف وسنة، ونفر منه العلمانيون والمعتدلون بعدما بات مثله مثل عشرات من الأعلام في سوريا وفي العراق وفلسطين والسودان، مع بعض الفوارق.
ممكن يكون هذا هو السبب الحقيقي، ولهذا ارتفعت الأصوات المطالبة بتغيير شكل علم مصر وقتل النسر، وإحلاله بالأهرامات الثلاثة -النائب بمجلس الشعب حسين عبد السميع- تأكيدا على هويتنا الفرعونية أفضل من حالة اللاهوية التي يعاني منها العَلم، فلبنان تضع شجرة الأرز المشهورة بها؛ تأكيدا على هويتها، والسعودية تضع العلم الأخضر بسيفيه وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ تأكيدا على هويتها الإسلامية وتاريخ النبي والسلف الصالح الذين انطلقوا لنشر الإسلام في العالم أجمع من مكة، وعليه فنحن أولى بأهرامات هي جُلّ معرفة الآخر بنا.
المشكلة فينا مش في العَلم
أم ربما العَلم مظلوم، والمشكلة ليست في العَلم؛ لأننا من نصنع العَلم ومن نقرر نحبه أم نكرهه، نلقيه أرضا أم نرفعه، ونحن لم نعد قادرين أن نحبه، وهذا تفسير شخص يائس من الحياة والبلد للعَلم المصري:
اللون الأحمر = دم الناس اللي بتموت في الحوادث والقطارات والعبّارات والمعدّيات!
اللون الأبيض = 40% أمية و100% عزوف شعبي عن المشاركة سياسية (أبببببببيض)!
اللون الأسود = الحزن والاكتئاب الذي بات سمة عامة للمصريين، ونسيوا الضحكة بعد أن كانت أهم مميزات المصري!
النسر = هو بطبيعته حيوان يقتات على لحم الميت، إذن النسر هو الحكومة!
ما تيجوا ننسى اللي فات
إذا كان من المهم أن نعرف سبب ما دفع بالعلم للنازل، إذا كان من المهم أن نعرف سبب وجوده على هامش قلوبنا في فترة من الفترات، فالأهم الآن أن العلم استرد مكانته في القلوب، لم يعد مجرد قماشة، بل أصبح عقد حب بين الناس والبلد، لكن كم من اتفاقيات وعقود حب تُخترق بحكم تصرفات خرقاء من حكومة هنا أو وزير هناك، إذن لا بد من شرط جزائي يضمن استمرار العقد..
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يضمن استمرار العقد هو أن نفصل علم مصر عن تصرفات بعض أهل مصر، أن يتساوى لدينا العَلم بالأهرامات والنيل، بالبرج، والأوبرا، ببائعي العيش والجرجير الغلابة، بالمفكرين والأدباء والعلماء، بمصر المعنى والقيمة، ولا نربطها بالقهر والظلم والفساد، ولا بـ"حرامية" القروض والبنوك والأراضي، ولا بالمرتشين والمحتكرين ممن هم من دماء الغلابة متربحون.. لو نجحنا في هذا الفصل العبقري فعلا فسنسترد المعنى والتفسير الحقيقي للعَلم كالتالي:
اللون الأسود = الاحتلال الذي ثُرنا عليه وأخرجناه منكسرا مهانا.
اللون الأحمر = دماء الشهداء في حرب 1973.
اللون الأبيض = السلام الذي نعمنا به بعد أن نفضنا عنّا غبار الحروب.
النسر = طائر الحرية الذي يفتك بكل من يقترب من حريته.
تفتكر نعمل إيه عشان العلم ما ينطفيش تاني؟
ويا ترى شكل العلم كده كويس ولا نغيّره؟